فصل: تفسير الآيات (1- 4):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولو كان الكلام محمولا على ظاهره لكان فاسدا مستحيلا على قولنا وقول المخالفين.
لأنه لا أحد يقول من المشبّهة والمجسّمة، الذين يثبتون للّه سبحانه أبعاضا مؤلفة، وأعضاء مصرّفة إنّ وجه اللّه سبحانه يبقى، وسائره يبطل ويفنى. تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا.
ومن الدليل على أن المراد بوجه اللّه هاهنا ذات اللّه قوله سبحانه: {ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ} ألا ترى أنه سبحانه لما قال في خاتمة هذه السورة: {تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ} قال: {ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (78)} ولم يقل (ذو) لأن اسم اللّه غير اللّه، ووجه اللّه هو اللّه، وهذا واضح البيان، وقد مضى الكلام على هذا المعنى فيما تقدم.

.[الرحمن: آية 31].

{سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (31)}.
وقوله سبحانه: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ} [31] وهذه استعارة. وقد كان والدي الطاهر الأوحد، ذو المناقب، أبو أحمد الحسين، بن موسى الموسوي، رضى اللّه عنه وأرضاه، سألنى عن هذه الآية في عرض كلام جرّ ذكرها، فأجبته في الحال بأعرف الأجوبة المقولة فيها. وهو أن يكون المراد بذلك: سنعمد لعقابكم ونأخذ في جزائكم على مساوئ أعمالكم، وأنشدته بيت جرير كاشفا عن حقيقة هذا المعنى.
وهو قوله:
ألان وقد فرغت إلى نمير ** فهذا حين صرت لها عذابا

فقال: فرغت إلى نمير، كما يقول: عمدت إليها. فأعلمنا أن معنى فرغت هاهنا معنى عمدت وقصدت. ولو كان يريد الفراغ من الشغل لقال: فرغت لها، ولم يقل فرغت إليها.
وقال بعضهم: إنما قال سبحانه: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ} ولم يقل: سنعمد. لأنه أراد أي سنفعل فعل من يتفرغ للعمل من غير تمجيع فيه، ولا اشتغال بغيره عنه، ولأنه لما كان الذي يعمد إلى الشيء ربما قصّر فيه لشغله معه بغيره، وكان الفارغ له- في الغالب- هو المتوفّر عليه دون غيره، دللنا بذلك على المبالغة في الوعيد من الجهة التي هي أعرف عندنا، ليقع الزجر بأبلغ الألفاظ، وأدلّ الكلام على معنى الإبعاد.
وقال بعضهم: أصل الاستعارة موضوع على مستعار منه ومستعار له، فالمستعار منه أصل، وهو أقوى. والمستعار له فرع، وهو أضعف. وهذا مطّرد في سائر الاستعارات، فإذا تقرر ذلك كان قوله تعالى: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ} من هذا القبيل.
فالمستعار منه هاهنا ما يجوز فيه الشغل، وهو أفعال العباد، والمستعار له ما لا يجوز فيه الشغل، وهو أفعال اللّه تعالى. والمعنى الجامع لهما الوعيد، إلا أن الوعيد بقول القائل:
سأتفرع لعقوبتك، أقوى من الوعيد بقوله: سأعاقبك. من قبل أنه كأنما قال: سأتجرد لمعاقبتك، كأنه يريد استفراغ قوّته في العقوبة له.
ثم جاء القرآن على مطرح كلام العرب، لأن معناه أسبق إلى النفس، وأظهر للعقل، والمراد به تغليظ الوعيد، والمبالغة في التحذير. ومثل ذلك قوله تعالى في المدّثّر، عليه الصلاة والسلام: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} فالمستعار منه هاهنا ما يجوز فيه المنع، وهو أفعال العباد، والمستعار له ما لا يجوز فيه المنع، وهو أفعال القديم سبحانه كما قلنا أولا.
والمعنى الجامع لهما التخويف والتهديد.
والتهديد بقول القائل: ذرنى وفلانا- إذا أراد المبالغة في وعيده- أقوى من قوله: خوّف فلانا من عقوبتى، وحذّره من سطوتى. وهذا بيّن بحمد اللّه تعالى.
وقد يجوز أن يكون لذلك وجه آخر، وهو أن يكون معنى قوله تعالى: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ} أي سنفرّغ لكم ملائكتنا الموكّلين بالعذاب، والمعدين لعقاب أهل النار.
ونظير ذلك قوله تعالى: {وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} أي جاء ملائكة ربّك.
ويكون تقدير الكلام: وجاء ملائكة ربّك وهم صفّا صفّا. كما تقول: أقبل القوم وهم زحفا زحفا. والملك هاهنا لفظ الجنس، وإنما أعيد ذكر الملك ليدل على المحذوف الذي هو اسم الملائكة، لأنه ما كان يسوغ أن يقول: وجاء ربك وهم صفّا صفّا، ويريد الملائكة على التقدير الذي قدرناه، لأن الكلام كان يكون ملبسا، والنظام مختلا مضطربا.
وقد يجوز أيضا أن يكون المعنى: وجاء أمر ربك، والملك صفّا صفّا. كلا القولين جائز.
وقرأنا حمزة والكسائي: {سيفرغ لكم}، بالياء وفتحها، وقرأنا: {سنفرغ لكم} بالنون كقراءة السبعة. اهـ.

.فصل في التفسير الموضوعي للسورة كاملة:

قال محمد الغزالي:
سورة الرحمن:
{الرحمن} من أسماء الله الحسنى، ويكثر أن يقترن باسم الذات {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن}. ومن آلاء الله العظمى أنه لم يترك البشر دون هداية تقود خطاهم وترسم هدفهم، فكان هذا القرآن الكريم جامعا لما أودع في صحف الأنبياء الأولين ومتضمنا أسباب الرشد للناس حتى قيام الساعة، فهو في سورة الآلاء النعمة الأولى على صاحب الرسالة الخاتمة {وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم}. وهو نعمة عظمى على كل من درسه وفقه الناس فيه «خيركم من تعلم القرآن وعلمه» لأنه يخلف الأنبياء في تبليغ الرسالة ومحو الجاهلية {الرحمن علم القرآن}. ومن خصائص الجنس البشرى نعمة البيان ونقل المعنى إلى الآخرين بألسنة شتى. ثم بين جل شأنه أن الكون محكوم بسنن ضابطة، وأن الكواكب لا تتجول في الفضاء كما يحلو لها، إن لها مسارا مرسوما وسرعة محددة، وعليها إشراف دقيق! وكذلك ما ينمو على الأرض من زرع له ساق مرتفعة أوله ساق تمتد على الثرى، كلاهما خاضع لنظام محكم {وأنبتنا فيها من كل شيء موزون}. إن جنبات الكون تشبه آلات الساعة التي تحصى الزمن {الشمس والقمر بحسبان والنجم والشجر يسجدان والسماء رفعها ووضع الميزان ألا تطغوا في الميزان}. وقد يظهر الفساد في البر والبحر بسبب فوضى الناس! وقد يقع ثقب في طبقة (الأوزون) بسبب الإسراف والطغيان، بيد أن قياد الكون لن يضطرب في يد خالقه! ولن يختل التوازن العام في قوانين المادة، إلى أن يأذن الله بفناء العالم وإعادة الخلق بعد بدئه وإفنائه..
ونحن مكلفون خلال هذه المدة بإقامة العدل سواء في تبادل السلع أو في إعطاء كل ذي حق حقه من الناحية الإدارية والاجتماعية {وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان}. ومن نعم الله على خلقه ثمرات الزروع والنخيل، فمع الفواكه الحلوة حبوب في أغلفتها التي تطير مع الريح كالقمح والأرز، ويعتمد أغلب البشر عليها في غذائهم، كما أن تبنها تأكله الدواب.. ثم هناك الورد والريحان متعة لمن شاء..! وقد تكررت آية {فبأي آلاء ربكما تكذبان} إحدى وثلاثين مرة خلال هذه السورة، والخطاب فيها للإنس والجن المكلفين بعبادة الله في هذه الدنيا... ويمكن تقسيم السورة كلها إلى أربعة فصول: الأول تكلم عن الخلق والإبداع. والثاني عن الفناء والبعث وجزاء المجرمين. والثالث عن أهل السبق من الطائعين. والرابع عن الذين يلونهم من المحسنين.. ومعروف أن آدم خلق من تراب، ثم من طين، ثم من صلصال من حمأ مسنون- منتن- ثم من صلصال كالفخار.. وخلقت ذريته من نطفة ثم علقة ثم مضغة إلخ.. هذه هي النشأة الأولى.. وسيملأ الناس أرجاء الأرض ثم يغلبهم جميعا الموت {كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام}. ثم يستيقظون لمواجهة الحساب، ولن يفلت منهم أحد فأما الصالحون فإلى نعيم مقيم، وأما الفاسدون فيقادون إلى عقبى ما قدموا. {يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام}. وهؤلاء المجرمون يمرون بمراحل شتى، فقد يناقشون الحساب حينا ويسألون عما فعلوا- كما يقع في دنيانا- لكن بعد البت في شئونهم لا يبقى إلا التنفيذ، فيساقون إلى جهنم.. وفى توبيخ المقصرين، وكشف مخازيهم تتكرر هذه الجملة المثيرة {فبأي آلاء ربكما تكذبان}. على نحو أخاذ، فقد تفصل بين الشرط والجزاء وتكشف عقودتى المفرطين في جنب الله قبل أن يذكر ما يفعل بهم مثل قوله جل شأنه: {فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان فبأي آلاء ربكما تكذبان فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان} هذه الجملة الأخيرة جواب إذا، وقبل أن يكتمل الجواب تكررت الآية {فبأي آلاء ربكما تكذبان}. ثم يجيء الوصف المتمم لعقاب الخونة {يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام}. وهذه التكرار ناضح بشدة الغضب الإلهي على من جحدوا النعم وعاشوا يمرحون فيها دون أن يقدروا صاحبها! كما يقول الأب الغاضب لابنه العاق: أنا- أيها الخائن- أهان؟! أنا ينسى أمري ويهدر حقي أيها العاق الخئون...؟! وتختم سورة الرحمن بوصف رقيق جميل للجنان التي أعدت للمتقين: هناك جنتان لأصحاب الدرجات العلا {ولمن خاف مقام ربه جنتان}. ويتكرر الفصل بين الصفة والموصوف كما ذكرنا آنفا في مثل قوله تعالى يصف الحور العين {فيهن قاصرات الطرف لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان فبأي آلاء ربكما تكذبان كأنهن الياقوت والمرجان}. إن حقوق النعمة كبيرة، وحرام على من استمتع بها ألا يقدرها قدرها..! وألا يدفع لها ثمنها. وهناك جنتان أخريان لجماهير المؤمنين {ومن دونهما جنتان فبأي آلاء ربكما تكذبان مدهامتان}. مع انتشار الخضرة وشيوع الظلال صح هذا الوصف. وقد وصف وادى الفرات ووادي النيل بأرض السواد، لغلبة الخضرة على الأرض، وهذه الجنان كلها قرة عين لأصحابها، جعلنا الله منهم. اهـ.

.في رياض آيات السورة الكريمة:

.فصل في أسرار ترتيب السورة:

قال السيوطي:
سورة الرحمن جل جلاله:
أقول: لما قال سبحانه وتعالى في آخر القمر: {بل الساعةِ موعدهم والساعة أَدهى وأَمر} ثم وصف حال المجرمين في سقر، وحال المتقين في جنات ونهر، فصل هذا الإجمال في هذه السورة أتم تفصيل، على الترتيب الوارد في الإجمال فبدأ بوصف مرارة الساعة، والإشارة إلى إدهائها، ثم وصف النار وأهلها، والجنة وأهلها، ولذا قال فيهم {ولِمن خافَ مقام ربهِ جنتان} وذلك هو عين التقوى ولم يقل: لمن آمن وأطاع، أو نحوه، لتتوافق الألفاظ في التفصيل والمفصل وعرف بذلك أن هذه السورة بأسرها شرح لآخر السورة التي قبلها فلله الحمد على ما ألهم وفهم. اهـ.

.تفسير الآيات (1- 4):

قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ القرآن (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
{بسم الله} الذي ظهرت إحاطة كماله بما ظهر من عجائب مخلوقاته (الرحمن) الذي ظهر عموم رحمته بما بهر من بدائع مصنوعاته واشتهر من عظيم آياته وبيناته (الرحيم) الذي ظهر اختصتصه لأهل طاعته بما تحققوا به من الذل المفيد للعز بلزوم عباداته.
ولما ختم سبحانه القمر بعظيم الملك وبليغ القدرة، وكان الملك القادر لا يكمل ملكه إلا بالرحمة، وكانت رحمته لا تتم إلا بعمومها، قصر هذه السورة على تعداد نعمه على خلقه في الدارين، وذلك من آثار الملك، وفصل فيها ما أجمل في آخر القمر من مقر الأولياء والأعداء في الآخرة، وصدرها بالاسم الدال على عموم الرحمة براعة للاستهلال، وموازنة لما حصل بالملك والاقتدار من غاية التبرك والظهور والهيبة والرعب باسم هو مع أنه في غاية الغيب دال على أعظم الرجاء مفتتحًا لها بأعظم النعم وهو تعليم الذكر الذي هز ذوي الهمم العالية في القمر إلى الإقبال عليه بقوله: {ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر} لأنه لما كان للعظمة الدالة عليها نون {يسرنا} التي هي عماد الملك نظران: نظر الكبرياء والجبروت يقتضي أن يتكلم بما يعجز خلقه من كل جهة في الفهم والحفظ والإتيان بمثله وكل معنى من معانيه، ونظر الإكرام والرحمة، وكانت رحمته سابقة لغضبه نظر بها لخلقه لاسيما هذه الأمة المرحومة فيسر لها الذكر تحقيقًا للرحمة بعد أن أبقى من آثار الجبروت الإعجاز عن النظر، ومن الإعجاز من الفهم الحروف المقطعة أوائل السور، ومنع المتعنت من أن يقول: إنه لا معاني لها بأن فهم بعض الأصفياء بعض أسرارها، فقال جوابًا لمن كأنه قال: من هذا المليك المقتدر، فقيل: {الرحمان} أي العام الرحمة، قال ابن برجان: وهو ظاهر اسمه الله، وباطن اسمه الرب، جعل هذه الأسماء الثلاثة في ظهورها مقام الذات يخبر بها عنه وحجابًا بينه وبين خلقه، يوصل بها الخطاب منه إليهم، ثم أسماؤه الظاهرة مبينة لهذه الأسماء الثلاثة- انتهى.